للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجنيد بن محمَّدٍ، وأبي عثمان النَّيسابوريِّ، ويحيى بن معاذٍ الرَّازيِّ؛ وأرفعَ من هؤلاء طبقةً مثل أبي سليمان الدَّارانيِّ، وعون بن عبد الله الذي كان يقال له "حكيمُ الأمّة" (١)، وأضرابهما؛ فإنّهم تكلَّموا (٢) على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلامًا مفصّلًا جامعًا مبيَّنًا مطلقًا، من غير ترتيبٍ، ولا حصرٍ للمقامات بعددٍ معلومٍ، فإنّهم كانوا أجلَّ من هذا، وهممُهم أعلى وأشرف. إنّما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة، وطهارة القلوب، وزكاة النُّفوس، وتصحيح المعاملة. ولهذا كلامُهم قليلٌ فيه البركة، وكلامُ المتأخِّرين كثيرٌ طويلٌ قليل البركة.

ولكن لا بدّ من مخاطبة أهل الزّمان باصطلاحهم، إذ لا قوّة لهم للتَّشمير إلى تلقِّي السُّلوك عن السّلف الأول وكلماتهم وهديهم. ولو برز لهم هديُهم وحالُهم لأنكروه، ولعدُّوه سلوكًا عامِّيًّا، وللخاصّة سلوكٌ آخر، كما يقوله ضُلَّال المتكلِّمين وجَهَلتُهم: إنّ القوم كانوا أسلم، وإنَّ طريقنا أعلم (٣)؛ وكما يقوله من لم يقدِر قدرَهم من المنتسبين إلى الفقه: إنّهم لم يتفرَّغوا لاستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالًا منهم بغيره، والمتأخِّرون تفرَّغوا لذلك، فهم أفقه (٤).


(١) المشهور بهذا اللقب أبو الدرداء - رضي الله عنه -. ثم أبو مسلم الخولاني، روي أنَّ كعبًا قال فيه: "هذا حكيم هذه الأمة". انظر: "سير أعلام النبلاء" (٢/ ٣٣٥) و (٤/ ٩)، و"المعين في طبقات المحدثين" للذهبي (ص ٢٥).
(٢) ق، ل: "نظموا"، ولعله تصحيف ما أثبت من ج، ش، ع.
(٣) انظر: "درء التعارض" (٥/ ٣٧٨) و"مجموع الفتاوى" (٤/ ١٥٧).
(٤) انظر: "مجموع الفتاوى" (١١/ ٣٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>