للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عدِّها والوقوفِ على حدِّها، وفرَّغ قلبَه لمشاهدةِ منّةِ الله عليه بها من غير استحقاقٍ ولا استجلابٍ لها بثمنٍ، فتيقَّن (١) حينئذٍ تقصيرَه في واجبها، وهو القيامُ بشكرها.

فأوجب له شهودُ تلك المنَّةِ والتَّقصيرِ نوعين جليلين من العبوديّة: محبّةُ المنعم واللَّهَجُ بذكره، وتذلُّلُه وخضوعُه له وإزراؤه (٢) على نفسه، حيث عَجَز عن شكر نعمه فصار متحقِّقًا بـ "أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنّه لا يغفر الذُّنوب إلّا أنت" (٣)، وعلِمَ حينئذٍ أنَّ هذا الاستغفار حقيقٌ بأن يكون سيِّد الاستغفار، وعلِمَ حينئذٍ أنَّ اللهَ لو عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحِمَهم لكانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم، وعلِمَ أنَّ العبدَ دائمًا سائرٌ إلى الله بين مطالعة المنّة ومشاهدة التّقصير.

قال (٤): (الثّاني: مطالعةُ الجناية، والوقوفُ على الخطر فيها، والتّشميرُ لتداركها، والتّخلُّصُ من رقِّها، وطلبُ النَّجاة بتمحيصها).

فينظرُ إلى ما سلَف منه من الإساءة، ويعلمُ أنّه على خطرٍ عظيمٍ فيها، مشرفٌ على الهلاك بمؤاخذة صاحب الحقِّ بموجَبِ حقِّه. وقد ذمَّ اللهُ تعالى في كتابه مَن نسي ما قدَّمَت يداه، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: ٥٧].


(١) ش: "فيتيقن".
(٢) في م وحدها رسمت الكلمة: "إزراه" لتقرأ منصوبة.
(٣) أخرجه البخاري (٦٣٠٦) من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه -.
(٤) "منازل السائرين" (ص ٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>