للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأمّا الفناء عن وجود السِّوى، فهو فناء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود، وأنّه ما ثَمَّ غيرٌ (١)، وأنَّ غايةَ العارفين والسّالكين الفناءُ في الوحدة المطلقة، ونفيُ التّكثُّر والتّعدُّد عن الوجود بكلِّ اعتبارٍ، فلا يشهد غيرًا أصلًا، بل يشهد وجودَ العبد عينَ وجود الرّبِّ، بل ليس عندهم في الحقيقة ربٌّ وعبدٌ.

وفناءُ هذه الطّائفة في شهود الوجودِ كلِّه واحدًا (٢)، وهو الواجب بنفسه، ما ثَمَّ وجودان: ممكنٌ، وواجبٌ. ولا يفرِّقون بينَ كون وجود المخلوقات بالله، وبينَ كونِ وجودها هو عين وجوده. وليس عندهم فرقانٌ بين العالمين وربِّ العالمين، ويجعلون الأمر والنّهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم، وهو تلبيسٌ عندهم. والمحجوبُ عندهم شهِدَ (٣) أفعاله طاعاتٍ ومعاصي، لأنه في مقام الفرق، فإذا ارتفعت درجته شهِدَ أفعالَه كلَّها طاعاتٍ لا معصية فيها، لشهوده الحقيقةَ الكونيَّةَ الشَّاملةَ لكلِّ موجودٍ. فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية، بل ارتفعت الطّاعات والمعاصي، لأنّها تستلزم اثنينيّةً وتعدادًا (٤)، وتستلزم مطيعًا ومطاعًا وعاصيًا ومعصيًّا؛ وهذا عندهم محض الشِّرك، والتّوحيد المحض يأباه. فهذا فناء هذه الطّائفة.

وأمّا الفناء عن شهود السِّوى، فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر الصُّوفيّة المتأخِّرين، ويعدُّونه غايةً، وهو الذي بنى عليه أبو إسماعيل الأنصاريُّ كتابه


(١) في ع زاد بعضهم بعده الهاء وكتب فوقه حرف الخاء يعني أن في نسخة أخرى: "غيره".
(٢) مفعول ثان للشهود. وفي ع: "واحد"، وهو خطأ.
(٣) ع: "من يشهد".
(٤) ع: "وتعدّدًا"، وقد سبق مثله.

<<  <  ج: ص:  >  >>