للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجعله الدّرجة الثّالثة في كلِّ بابٍ من أبوابه.

وليس مرادهم فناءَ وجود ما سوى الله تعالى في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسِّهم. فحقيقتُه: غَيبةُ أحدهم عن سوى مشهوده، بل غَيبتُه أيضًا عن شهوده ونفسه، لأنّه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، وبمحبوبه عن حبِّه، وبمشهوده عن شهوده. وقد يسمّى حالُ مثلِ هذا سكرًا، واصطلامًا، ومحوًا، وجمعًا؛ وقد يفرِّقون بين معاني هذه الأسماء.

وقد يغلب شهودُ القلب بمحبوبه ومذكوره حتّى يغيبَ به ويفنى به، فيظنّ أنّه اتّحد به وامتزج، بل يظنُّ أنّه نفسُه، كما يحكى أنّ رجلًا ألقى محبوبُه نفسَه في الماء، فألقى المحبُّ نفسَه وراءه، فقال له: ما الذي أوقعك في الماء؟ فقال: غبتُ بك عنِّي، فظننت أنّك أنِّي (١).

وهذا إذا عاد إليه عقلُه يعلم أنّه كان غالطًا في ذلك، وأنّ الحقائق متميِّزةٌ في ذاتها، فالرَّبُّ ربٌّ، والعبدُ عبدٌ، والخالقُ بائنٌ عن المخلوقات، ليس في مخلوقاته شيءٌ من ذاته، ولا في ذاته شيءٌ من مخلوقاته؛ ولكن في حال السُّكر والمحو والاصطلام والفناء قد يغيب عن هذا التّمييز. وفي مثل (٢)


(١) نقل هذه الحكاية شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه. انظر مثلًا: "الجواب الصحيح" (٣/ ٣٣٨)، و"منهاج السنة" (٥/ ٣٥٦)، و"مجموع الفتاوى" (٢/ ٣١٤، ٣٦٩، ٣٩٦، ٤٨٢)، ورسالة إبطال وحدة الوجود ضمن "مجموعة الرسائل والمسائل" (١/ ٨٣).
(٢) كلمة "مثل" ساقطة من ع.

<<  <  ج: ص:  >  >>