وتعبُّدٌ باسمه البَرِّ اللطيفِ المحسنِ الرفيقِ، فإنَّه رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، وفي «الصحيح»: «ما خيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلَّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا»؛ لِما فيه من روح التعبُّد باسم الرفيق اللطيف، وإجمام القلب به لعبوديَّةٍ أخرى، فإنَّ القلب لا يزال يتنقَّل في منازل العبوديَّة، فإذا أخذ بترفيه رخصةِ محبوبه استعدَّ بها لعبوديَّةٍ أخرى. وقد تقطعه عزيمتُها عن عبوديَّةٍ هي أحبُّ إلى الله منها، كالصائم في السفر الذي ينقطع عن خدمة أصحابه، والمفطر الذي يضرب الأبنية، ويسقي الرِّكاب، ويضمُّ المتاع؛ ولهذا قال فيهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر». وأمَّا الرُّخص التأويليَّة المستندةُ إلى اختلاف المذاهب والآراء التي تصيب وتخطئ، فالأخذ بها عندهم عين البطالة ومنافٍ للصِّدق».
قلنا: أما الفركاوي فلم يفعل شيئًا، قابل جملة الهروي بجملة أخذها من كلام الإسكندري. وكان الإسكندري موفقًا إذ فطن لما قد يذهب على السالك في فهم كلام الهروي، فنبَّه على أن لا يمتنع من الرخص التي شرعت لطفًا بالعباد كالفطر والقصر في السفر. وقد خلا كلام التلمساني - وتابعه القاساني- من هذا التنبيه. أما ابن القيم فقد فصَّل ما أوجزه الإسكندري، وذكر أن الرخص المشروعة لا تنافي الصدق أبدًا، وبيَّن ما فيها من الحكم والفوائد للسالك مستدلًّا بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم ينس أن يشير إلى أن الرخص الراجعة إلى اختلاف المذاهب الفقهية أمرُها مختلفٌ، والأخذ بها منافٍ للصدق.
(٤) الدرجة الثالثة من مدارج منزلة الصدق عند الهروي: (الصِّدق في معرفة الصِّدق. فإنّ الصِّدق لا يستقيم في علم أهل الخصوص إلَّا على حرفٍ