للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأفعالَ بعين الحسن والقبح، فرأى منها الطَّاعةَ والمعصيةَ، فإذا ترقَّى إلى شهود الحقيقة الأولى ــ وهي الحقيقة الكونيَّة ــ ورأى شمولَ الحُكمِ الكونيِّ للكائنات وإحاطتَه بها، وعدمَ خروج ذرّةٍ منه (١) عنه= زال عنه استقباحُ شيءٍ من الأفعال، وشهدها كلَّها طاعاتٍ للأقدار والمشيئة. وفي مثل هذا الحال يقول: إن كنت عصيتُ الأمرَ، فقد أطعتُ الإرادةَ (٢)، ويقول:

أصبحتُ منفعلًا لما تختاره ... منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ (٣)

فإذا ترقّى مرتبةً أخرى، وزال عنه الفرقُ بين الرَّبِّ والعبدِ ــ كما زال عنه في المرتبة الثّانية الفرقُ بين المحبوب والمسخوط، والمأمور والمحظور ــ قال: ما ثَمَّ طاعةٌ ولا معصيةٌ، إذ الطّاعةُ والمعصيةُ إنَّما يكونان بين اثنين ضرورةً؛ والمطيعُ عينُ المطاع (٤)، فما هاهنا غيرٌ! فالوحدةُ المطلقةُ تنفي الطَّاعةَ والمعصيةَ. فالصُّعودُ من وحدة الفعل إلى وحدة الوجود يزيل (٥) عنه ــ بزعمه ــ توهُّمَ الانقسام إلى طاعةٍ ومعصيةٍ، كما كان الصُّعودُ من تفرقة


(١) كذا في الأصل وغيره ما عدا ج التي لم ترد فيه. والظاهر أن الصواب: "منها"، يعني من الكائنات.
(٢) نسبه شيخ الإسلام إلى بعض أصحاب علي بن حسين الحريري (ت ٦٤٥). انظر: "مجموع الفتاوى" (٨/ ٢٥٧). وقد ذكره المصنف في عدة مواضع من كتابه "طريق الهجرتين" (ص ٥٥، ١٨٣، ٣٥١، ٦٥٨) وغيره.
(٣) ج، ش: "يختاره"، والمثبت من ل، م. والبيت لابن إسرائيل الدمشقي (ت ٦٧٧ هـ) كما تقدم في تخريجه (ص ٢٥٤).
(٤) ش: "غير المطاع"، تصحيف.
(٥) أهمل حرف المضارع في م. وفي غيرها ما عدا ع: "تزيل" هنا وفيما يأتي نظرًا إلى "وحدة الوجود" و"وحدة الحكم" فيما يبدو.

<<  <  ج: ص:  >  >>