للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعبوديَّتَه، وأضافها إلى الله، وشهد مع ذلك كونَها به؟ فأين هذا من حال المستغرِق الفاني المصطلَم الذي قد غاب بمعبوده عن حقِّه وعبادته، وقد أُخِذَ منه وغُيِّب عنه؟ نعم، غايةُ هذا أن يكون معذورًا، أمّا أن يكون مقامُه أعلى مقامٍ وأجلَّه فكلَّا.

وكذلك إذا قال في قراءته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فعبوديّةُ هذا القول فهمُ معنى العبادة والاستعانة، واستحضارُهما، وتخصيصُهما بالله، ونفيُهما عن غيره. فهذا أكمَلُ من قول ذلك بمجرَّد اللِّسان.

وكذلك إذا قال في ركوعه: "اللهمَّ لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشَع لك سمعي وبصري ومخِّي وعَظْمي، وما استقلَّ به قدَمي" (١). فكيف يؤدِّي عبوديّةَ هذه الكلمات غائبٌ عن فعله مستغرقٌ في فنائه؟ وهل يبقى غيرُ أصواتٍ جاريةٍ على لسانٍ؟ ولولا العذرُ لم تكن هذه عبوديّةً.

نعم، رؤيةُ هذه الأفعال، والوقوفُ عندها، والاحتجابُ بها عن المنعِم بها الموفِّق لها المانِّ بها= من أعظم العلل والقواطع (٢). قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: ١٧]. فالعارف غائبٌ بمنّة الله عليه في طاعته مع شهودها ورؤيتها، والجاهلُ غائبٌ بها عن رؤية منَّة الله، والفاني غائبٌ


(١) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - السابق. وفي "صحيح مسلم" بعد "عظمي": "وعصبي". وزيادة "وما استقلت به قدمي لله ربَ العالمين" في "صحيح ابن خزيمة" (٦٠٧) و"صحيح ابن حبان" (١٩٠١).
(٢) ع: "العلل القواطع".

<<  <  ج: ص:  >  >>