ليس لصفة قائمة بالفعل، وإنما لكونه مأمورًا به أو منهيًّا عنه في الشرع. وأما الطائفة الثانية، فكان غلطهم في هذا الباب في ظنهم أن شهود الحقيقة الكونية والفناء في توحيد الربوبية من مقامات العارفين، بل أجلُّ مقاماتهم.
وبعد ما ردّ ابن القيم على مذهب الطائفة الأولى في الصفحات (١/ ٣٥٩ - ٣٧٩)، اتجه إلى الرد على الأخرى، وختمه بتنبيه القارئ على أهمية هذا الفصل قائلا:«فتدبَّر هذا الفصلَ، وأحِطْ به علمًا، فإنّه من قواعد السُّلوك والمعرفة. وكم قد زلَّت فيه من أقدامٍ، وضلَّت فيه من أفهامٍ! ومَن عرَفَ ما عند النَّاس، أو نهضَ من مدينة طبعه إلى السَّير إلى الله، عرَفَ مقداره. فمَن عرَفه عرَفَ مجامعَ الطُّرق ومَفْرَقَ الطُّرق التي تفرَّقت بالسَّالكين وأهل العلم والنَّظر»(١/ ٣٩٠).
ولكن لم يكتف ابن القيم بهذا الرد، بل عُني ببيان الفرق بين محبة الله ورضاه وبين مشيئته وإرادته، لأنه رأى أن منشأ الضلال في هذا الباب من التسوية بينهما أوالاعتقاد بوجوب الرضا بالقضاء، فذكر مذاهب المتكلمين في المسألة (١/ ٣٩١ - ٣٩٣)، ثم عقد فصلا ساق فيه الدلائل من القرآن والسنة وغيرهما على الفرق بين المشيئة والمحبة (١/ ٣٩٣ - ٣٩٨)، وأتبعه فصلا آخر في مسألة الرضا بالقضاء (١/ ٣٩٨ - ٣٩٩).
وقد بدأ هذا التعقب لكلام صاحب المنازل كما رأينا عند شرح قوله في ذكر اللطيفة الثالثة من لطائف أسرار التوبة (١/ ٣٥٥)، وطال حتى انتهى بعد ٤٥ صفحة. وقد شعر ابن القيم بإطالته، فنبه القارئ مرة أخرى بقوله:«ولا تنكر الإطالة في هذا الموضع، فإنّه مزلَّةُ أقدام الخلق، وما نجا من معاطبه إلّا أهلُ البصائر والمعرفة بالله وصفاته وأمره».