للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قيل: توبةُ مثل هذا بالتزام أخفِّ المفسدتين، من الإقامة على الذَّنب المعيَّن أو الانتقال عنه. فإن تساوت مفسدةُ الإقامة على الذَّنب ومفسدةُ الانتقال عنه من كلِّ وجهٍ، فهذا يؤمر من التَّوبة بالمقدور له منها، وهو: النَّدَم والعزمُ الجازمُ على ترك المعاودة. وأمَّا الإقلاعُ فقد تعذَّر في حقِّه إلّا بالتزام مفسدةٍ أخرى مثلِ (١) مفسدته.

فقيل: إنّه لا حكمَ لله في هذه الحادثة (٢)، لاستحالة ثبوت شيءٍ من الأحكام الخمسة فيها، إذ إقامتُه على الجريح تتضمَّن مفسدةَ قتله، فلا يؤمَر بها ولا هو مأذونٌ له فيها. وانتقالُه عنه يتضمَّن مفسدةَ قتلِه الآخرَ (٣)، فلا يؤمَر بالانتقال ولا يؤذن له فيه، فتعذَّر الحكمُ في هذه الحادثة، وعلى هذا فتتعذَّرُ التَّوبةُ منها.

والصّوابُ: أنّ التَّوبة غيرُ متعذِّرةٍ، ولله فيها حكمٌ؛ فإنّه لا واقعةَ إلّا ولله فيها حكمٌ، علِمَه مَن علِمَه وجَهِلَه مَن جَهِله. فيقال: حكمُ الله في هذه الواقعة كحكمه في المُلْجَأ، فإنّه قد أُلجئ قدرًا إلى إتلاف أحد النَّفسين ولا بدَّ، والمُلْجَأُ ليس له فعلٌ يضاف إليه، بل هو آلةٌ. فإذا صار هذا كالمُلجأ، فحكمُه أن لا يكون منه حركةٌ ولا فعلٌ ولا اختيارٌ، فلا يعدِل من واحدٍ إلى واحدٍ، بل يتخلّى عن الحركة والاختيار، ويستسلم استسلامَ من هو عليه (٤)، إذ لا قدرةَ له على حركةٍ مأذونٍ له فيها البتَّةَ؛ فحكمُه الفناءُ عن الحركة والاختيار


(١) ش: "دون".
(٢) انظر: "المنخول" للغزالي (ص ١٩٩)، و"التحبير شرح التحرير" (٢/ ٩٧٥).
(٣) ع: "قتل الآخر".
(٤) في هامش ع: "من الجرحى" مع علامة صح.

<<  <  ج: ص:  >  >>