للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فاعلم أنَّ الرجل قد يكون له قلبٌ وقَّادٌ، مليءٌ باستخراج العبر واستنباط الحِكَم، فهذا قلبه يوقعه على التذكُّر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نورًا على نورٍ، وهؤلاء أكمل خلق الله تعالى، وأعظمهم إيمانًا وبصيرةً، حتَّى كأنَّ الذي أخبرهم به الرسول قد كان (١) مشاهدًا لهم لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه، حتّى قيل: إنَّ مثل حال الصِّدِّيق - رضي الله عنه - مع النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كمثل رجلين دخلا دارًا فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجُزويَّاتها (٢)، والآخر وقعت يده على ما في الدَّار ولم ير تفاصيله ولا جزويَّاته، لكن علم أنَّ فيها أمورًا عظيمةً لم يدرك بصرُه تفاصيلها، ثمَّ خرجا فسأله عمَّا رأى في الدَّار؟ فجعل كلَّما أخبره بشيءٍ صدَّقه لِما عنده من شواهده، وهذه أعلى درجات الصِّدِّيقيّة. ولا تستبعد أن يمنَّ الله المنَّان على عبدٍ بمثل هذا الإيمان، فإنَّ فضل الله لا يدخل تحت حصرٍ ولا حسبانٍ.

فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نورٌ من البصيرة ازداد بها نورًا إلى نوره. فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب، فألقى السّمع وشهد قلبُه ولم يَغِب= حصل له التذكُّر أيضًا، {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: ٢٦٥]، والوابل والطّلُّ في جميع الأعمال وآثارها وموجَباتها، وأهلُ الجنَّة سابقون مقرَّبون وأصحاب يمينٍ، وبينهما في درجات التّفضيل ما بينهما، حتّى إنّ شراب أحد النّوعين الصِّرف يُطيَّب به شرابُ النَّوع الآخر ويُمزج به مزجًا.


(١) «قد كان» ساقط من ع.
(٢) ع: «جزويَّاته».

<<  <  ج: ص:  >  >>