وليست هذه المعارضات من قبيل الخواطر، بل من قبيل الواردات الإلهيَّة، فلذلك قال:(دون الخواطر)، فإنَّ معارضات الخواطر غير هذا.
وعند القوم هذا من آثار الأسماء والصِّفات، واتِّصال أشعَّة أنوارها بالقلب، وهو المسمَّى عندهم بالتجلِّي.
وأمّا (معارضاتُ القصود)، فهو أصعب ما على القوم، وفيه يظهر اضطرارهم إلى العلم فوقَ كلِّ ضرورةٍ، فإنَّ الصادق يتحرَّى في سلوكه كلِّه أحبَّ الطُّرق إلى الله، فإنّه سالكٌ به وإليه، فيعترضه طريقان لا يدري أيُّهما أرضى لله وأحبُّ إليه، فمنهم من يحكِّم العلم بجهده استدلالًا، فإن عجز فتقليدًا، فإن عجز عنهما سكن ينتظر ما يَحكم له به القدرُ ويُخلي باطنه من المقاصد جملةً. ومنهم من يُلقي الكلَّ على شيخه إن كان له شيخٌ. ومنهم من يلجأ إلى الاستخارة والدُّعاء، ثمَّ ينتظر ما يجري به القدر.
وأصحاب العزائم يبذلون وسعهم في طلب الأرضى علمًا ومعرفةً، فإن أعجزهم قنعوا بالظنِّ الغالب، فإن تساوى عندهم الأمران، قدَّموا أرجحهما مصلحةً. ولترجيح المصالح رتبٌ متفاوتةٌ، فتارةً تترجَّح بعموم النفع، وتارةً تترجَّح بزيادة الإيمان، وتارةً تترجَّح بمخالفة النفس، وتارةً تترجَّح باستجلاب مصلحةٍ أخرى بها لا تحصل من غيرها، وتارةً تترجَّح بأمنها من الخوف من مفسدةٍ لا تؤمَن في غيرها. فهذه خمس جهاتٍ من التّرجيح، قلَّ أن تُعدَم واحدةٌ منها.
فإن أعوزه ذلك كلُّه تخلَّى عن الخواطر جملةً، وانتظر ما يحرِّكه به محرِّك القدر، وافتقر إلى ربِّه افتقار مستنزلٍ ما يرضيه ويحبُّه، فإذا جاءته الحركة استخار الله وافتقر إليه افتقارًا ثانيًا خشيةَ أن تكون تلك الحركة نفسيةً