للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لذلك ولا يتحرّك، بل يبقى كأنّه جبلٌ.

وتلا الجنيد - رحمه الله - في مثل هذه الحال ــ وقد قيل له: أما يُغيِّرك ما تسمع؟ ــ قولَه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسِبُهَا جَامِدَةً وَهْيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: ٨٨] (١).

وبعضهم تلا في مثل ذلك قوله تعالى: {وَتَحْسِبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: ١٨].

وقومٌ أقوى تمكينًا من هؤلاء: لم يَغلِبْهم على عقولهم، بل سَلَبَهم طاقةَ صبرهم، فبدا منهم ما ينافي الصّبر.

وأمّا قوله: (وحلَّ عنهم قُيودَ العلم).

فكلامٌ لا بدَّ من تأويله، وتكلُّفِ وجهٍ يُصحِّحه.

وأحسن ما يحمل عليه: أنّ العلم يقيِّد صاحبَه (٢)، والمعرفة تُطلِقه، وتُوسِّع بِطانَه (٣)، وتُرِيه حقائقَ الأشياء، فتزول عنه التّقيُّدات التي كانت حاصلةً بسبب خفاء نور المعرفة وكشفها عليه.

فإنّ العارفَ صاحبَ ضياء الكشف أوسعُ بِطانًا وقلبًا وأعظمُ إطلاقًا بلا شكٍّ من صاحب العلم، ونسبته إليه كنسبة صاحب العلم إلى الجاهل. فكما أنّ العالم أوسعُ بِطانًا من الجاهل وله إطلاقٌ بحسب علمه، فالعارف ــ بما معه من روح العلم وضياء الكشف ونوره ــ هو أكثرُ إطلاقًا وأوسعُ بِطانًا من


(١) «الرسالة القشيرية» (ص ٢٤٥، ٢٤٦). ورواه أبو نعيم في «الحلية» (١٠/ ٢٧١).
(٢) «صاحبه» ليست في ش، د.
(٣) البِطان: حزام يُشَدُّ على البطن. يقال: فلان واسع البطان أي رخيّ البال.

<<  <  ج: ص:  >  >>