للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صاحب العلم. فيُقيَّد العالم بظواهر العلم وأحكامه، والعارف لا يراها قيودًا.

ومن هاهنا (١) تزندقَ من تزندقَ، وظنّ أنّه إذا لاحت له حقائقُها وبواطنها خلع قيودَ ظواهرها ورسومها، اشتغالًا بالمقصود عن الوسيلة، وبالحقيقة عن الرّسم. فهؤلاء هم المقطوعون عن الله، القُطَّاع لطريق الله، وهم معاطِبُ الطّريق وآفاتها.

واتّفق أنّ العارفين تكلَّموا في الحقائق، وأمروا بالانتقال من الرُّسوم والظّواهر إليها، وأن لا يُوقَفَ عندها. فظنّ هؤلاء الزّنادقة أنّهم جوَّزوا خلْعَها والانحلالَ منها. ولا ريبَ أنّ من جوّز ذلك فهو مثل هؤلاء. والله يَرْكُم الخبيثَ بعضَه على بعضٍ، فيجعله في جهنّم. أولئك هم الخاسرون (٢).

فصاحب «المنازل» - رحمه الله - أشار إلى المعنى الحقِّ الصّحيح، كما أشار إليه شيوخ القوم.

وأمّا استدلاله بقول النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أسألك الشّوق إلى لقائك في غير ضرّاء مضرّةٍ ولا فتنةٍ مضلّةٍ» فليس بمطابق لما ذكره في هذه الدّرجة.

فأين طلب الشّوق إلى لقائه، الباعث على كمال الاستعداد، وعلى خفّة أعباء السّير، والمُزِيل لكلِّ فتورٍ، والحامل على كلِّ صدقٍ وإخلاصٍ وإنابةٍ وصحّة معاملةٍ= إلى أمرٍ مَشُوبٍ بصولة الهَيَمان، تَضرِبه أمواج الفناء، بحيث غلب قومًا على عقولهم، وسلب قومًا صبْرَهم بحيث صيَّرهم في عالم الفناء؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليسأل حالة الفناء قطُّ، وإنّما سأل شوقًا موجبًا


(١) ل: «ومن ثم».
(٢) كما في سورة الأنفال: ٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>