فالشّواهد هي الأفعال الدّالّة على الصِّفات المستلزمة للذّات، وشواهد المعرفة هي الأدلّة التي حصلت عنها المعرفة، فإذا طواها الشّاهد من وجوده، وشهد أنّه ما عرف الله إلّا به، ولا دلّ عليه إلّا هو= غابت شواهده في مشهوده، كما تغيب معارفُه في معروفه.
وبكلِّ حالٍ فما عُرِف الله إلّا بالله، ولا دَلَّ على الله إلّا الله، ولا أوصل إلى الله إلّا الله، فهو الدّالُّ على نفسه بما نصبَه من الأدلّة، والذّاكر لنفسه على لسان عبده، كما قال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله قال على لسان نبيِّه: سمع الله لمن حمده»(١). وهو المحبُّ لنفسه بنفسه، وبما خلق من عبيده الذين يحبُّونه، والشّاكر لنفسه بنفسه، وبما أجراه على ألسنة عبيده وقلوبهم وجوارحهم من ذكره، فمنه السّبب وهو الغاية، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد: ٣].
وللملحد هاهنا مجالٌ، حيث يظنُّ أنّ الذاكر والمذكور والذِّكر، والعارف والمعروف والمعرفة، والمحبّ والمحبوب والمحبّة= من عينٍ واحدةٍ، لا بل ذلك هو العين الواحدة، وأنّ الذي عرف الله وأحبّه هو الله نفسه وإن تعدّدت مظاهره، فالظّاهر فيها واحدٌ، ظهر بوجوده العينيِّ فيها، فوجودها عينُ وجوده، ووجوده فاضَ عليها. وهذا أكفر من كلِّ كفرٍ، وأعظم من كلِّ إلحادٍ.
والموحِّدون يقولون: إنّما أفاضَ عليها إيجادَه لا وجوده، وظهر فيها
(١) أخرجه مسلم (٤٠٤) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.