للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دخل عليه بغتةً على أحسن هيئةٍ، فقابله قريبًا منه، وليس دونه سواه، أفليس (١) هذا حقيقًا أن يفنى عن رؤية غيره بمشاهدته، وأن يفنى عن شهوده بمشهوده، بل وعن حبِّه بمحبوبه؟ فيملك عليه المحبوبُ سمعَه وبصره وإرادته وإحساسه، ويغيب به عن ذاته وصفاته؟

وانظر إلى النِّسوة كيف قطَّعن أيديهنَّ لمَّا طلع عليهنَّ يوسف وشاهدن ذلك الجمال، ولم يتقدَّم لهنَّ من عشقه ومحبَّته ما تقدَّم لامرأة العزيز، بل أفناهنَّ (٢) شهود جماله عن حالهنَّ حتَّى قطَّعن أيديهنَّ. وأمَّا امرأة العزيز، فإنَّها وإن كانت صاحبة المحبَّة، فإنَّها كانت قد ألفت رؤيتَه ومشاهدتَه، فلمَّا خرج لم يتغيَّر عليها حالُها كما تغيَّر على العواذل، فكان مقامها البقاء ومقامهنَّ الفناء، وحصل لهنَّ الفناء من وجهين:

أحدهما: ذهولهنَّ عن الشُّعور بقطع ما في أيديهنَّ حتَّى تخطَّاه القطع إلى الأيدي.

الثاني: فناؤهنَّ عن الإحساس بألم القطع. وهكذا الفناء بالمخوف والفرح بالمحبوب يُفني صاحبه عن شعوره وعن إحساسه بالكيفيَّات النفسانيَّة.

هذا في مشاهدة مخلوقٍ محدثٍ له أشباهٌ وأمثال، وله من يقاربه ويدانيه في الجمال، وإنَّما فاق بني جنسه في الحسن والجمال ببعض الصِّفات، وامتاز ببعض المعاني المخلوقة المصنوعة. فما الظنُّ بمن له الجمالُ كلُّه، والكمال كلُّه، والإحسانُ والإجمال، ونسبةُ كلِّ جمالٍ في الوجود إلى جماله وجلاله


(١) همزة الاستفهام ساقطة من ش، د.
(٢) ر: «فأفناهن».

<<  <  ج: ص:  >  >>