للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لفظٍ: "لن ينجي أحدًا منكم عملُه". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلّا أن يتغمّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ" (١). وأثبت سبحانه دخول الجنّة بالعمل، كما في قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: ٣٢]. ولا تنافي بينهما، إذ تواردُ النّفي والإثبات ليس على معنًى واحدٍ، فالمنفيُّ استحقاقُها بمجرَّد الأعمال، وكونُ الأعمال ثمنًا وعوضًا لها ردًّا على القدريّة المجوسيّة التي زعمت أنَّ التفضُّلَ بالثواب ابتداءً متضمِّنٌ لتكدير المنّة.

وهذه الطائفة من أجهلِ الخلق بالله تعالى، وأغلَظِهم عنه حجابًا؛ وحُقَّ لهم أن يكونوا مجوسَ هذه الأمّة. ويكفي من جهلهم بالله أنّهم لم يعلموا أنَّ أهلَ سماواته وأرضه في مِنَّته، وأنَّ من تمام الفرح والسرور والغبطة واللَّذَّة اغتباطَهم بمنّةِ سيِّدهم ومولاهم الحقِّ، وأنّه إنّما طاب لهم عيشُهم بهذه المنَّة. وأعظَمُهم منه منزلةً وأقربُهم إليه: أعرَفُهم بهذه المنّة، وأعظَمُهم إقرارًا بها، وذكرًا لها، وشكرًا عليها، ومحبّةً له لأجلها. فهل يتقلَّب أحدٌ قطُّ إلّا في منّته! {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: ١٧].

واحتمالُ منَّة المخلوق إنّما كانت نقصًا لأنّه نظيره، فإذا منَّ عليه استعلى عليه، ورأى الممنونُ عليه نفسَه دونه. هذا مع أنّه ليس في كلِّ مخلوقٍ، فلرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المنّةُ على أمّته، وكان أصحابه - رضي الله عنهم - يقولون (٢): اللهُ


(١) أخرجه البخاري (٦٤٦٣) ومسلم (٢٨١٦) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(٢) في ع بعده زيادة: "له".

<<  <  ج: ص:  >  >>