للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يرى السِّوى ولا الغيرَ= فهذا ليس بمحمودٍ، ولا هو وصف كمالٍ (١)، ولا هو ممّا يُرْغَب فيه ويؤمَر به. بل غايةُ صاحبه أن يكون معذورًا لعَجزه وضعفِ قلبه وعقله عن احتمالِ التّمييز والفرقان، وإنزالِ كلِّ ذي منزلةٍ منزلتَه موافقةً لداعي العلم، ومقتضى الحكمة، وشهودٍ للحقائق على ما هي عليه، والتّمييزِ بين القديم والمحدَث، والعبادة والمعبود؛ فيُنْزِلُ العبادةَ منازلَها، ويشهدُ مراتبَها ويعطي كلَّ مرتبةٍ منها حقَّها من العبوديّة، ويشهَدُ قيامَه بها فإنّ شهودَ العبد قيامَه بالعبوديّة أكمَلُ في العبوديّة من غَيبته عن ذلك؛ فإنّ أداءَ العبوديّة في حال غَيبة العبد عنها وعن نفسه بمنزلة أداء السّكران والنّائم، وأداؤها في حال كمال يقظته وشعوره بتفاصيلها وقيامه بها أتَمُّ وأكمَلُ وأقوى عبوديّةً.

فتأمَّلْ حالَ عبدين في خدمة سيِّدهما: أحدُهما يؤدِّي حقوق خدمته في حال غَيبته عن نفسه وعن خدمته لاستغراقه بمشاهدة (٢) سيِّده. والآخَرُ يؤدِّيها في حالِ كمالِ حضوره وتمييزه، وإشعارِ نفسه بخدمةِ السّيِّد وابتهاجِها بذلك فرحًا بخدمته، وسرورًا والتذاذًا منه، واستحضارًا لتفاصيل الخدمة ومنازلها؛ وهو مع ذلك عاملٌ على مراد سيِّده منه، لا على مراده من سيِّده. فأيُّ العبدين أكمل؟

فالفناءُ حظُّ الفاني ومرادُه. والعلمُ والشُّعورُ، والتّمييزُ والفرقُ، وتنزيلُ الأشياء منازلَها وجعلُها في مراتبها= حقُّ الرَّبِّ ومرادُه. ولا يستوي صاحبُ هذه العبوديّة، وصاحبُ تلك. نعم، هذا أكمل حالًا من الذي لا حضور له ولا مشاهدة، بل هو غائبٌ بطبعه ونفسه عن معبوده وعن عبادته. وصاحبُ


(١) ج: "الكمال"، وكذا كان في ق، ل، فطمست "ال" في ق وضرب عليها في ل.
(٢) ج: "في مشاهدة".

<<  <  ج: ص:  >  >>