للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّمييز والفرقان ــ وهو صاحب الفناء الثّالث ــ أكمل منهما.

فزوالُ العقلِ والتّمييزِ والغَيبةُ عن شهود نفسه وأفعالها لا يُحمَد، فضلًا عن أن يكون في أعلى مراتب الكمال؛ بل يُذَمُّ إذا تسبَّب إليه وباشَرَ أسبابَه، وأعرض عن الأسباب التي توجب له التّمييز والعقل. ويُعذَر إذا ورد عليه ذلك بلا استدعاءٍ، بل كان مغلوبًا عليه، كما يُعذَر النّائمُ، والمغمى عليه، والمجنونُ، والسّكرانُ الذي لا يُذَمُّ على سُكره كالمُوجَرِ (١) والجاهلِ بكون الشَّراب مسكِرًا ونحوهما.

وليس أيضًا هذه الحال بلازمةٍ لجميع السّالكين، بل هي عارضةٌ لبعضهم: منهم من يبتلى بها كأبي يزيد وأمثاله، ومنهم من لا يبتلى بها وهم أكمل وأقوى، فإنَّ الصّحابةَ ــ وهم ساداتُ العارفين وأئمّةُ الواصلين، وقدوةُ السَّالكين ــ لم يكن فيهم من ابتُلي بمثل ذلك (٢)، مع قوّة إرادتهم، وكثرة منازلاتهم (٣)، ومعاينة ما لم يعاينه غيرُهم، ولا شَمَّ له رائحةً، ولم يخطُر على قلبه. فلو كان هذا الفناء كمالًا لكانوا هم أحقَّ به وأهلَه، وكان لهم منه (٤) ما لم يكن لغيرهم.

ولا كان أيضًا هذا حال نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - (٥). ولهذا، في ليلة المعراج، لمّا أُسري به وعايَنَ ما عايَنَ ممّا أراه الله إيّاه من آياته الكبرى لم تعرض له هذه الحال،


(١) من الوَجُور. وهو الذي صُبَّ المسكِرُ في حلقه وهو كاره.
(٢) ع: "بذلك".
(٣) هي نوع من الواردات القلبية، وقد تقدَّم تفسيرها.
(٤) "منه" ساقط من ش، وكان ساقطًا من الأصل أيضًا فاستدرك فوق السطر.
(٥) ع: "هذا أيضًا لنبيِّنا ولا حالًا من أحواله - صلى الله عليه وسلم - ".

<<  <  ج: ص:  >  >>