معهم ومنهم. وغرَّه سرابُ الفناء، فظنّ أنّه لجّةُ بحر المعرفة وغايةُ العارفين، وبالغ في تحقيقه وإثباته» (١/ ٢٢٧).
ولا يقصد شيخ الإسلام الهروي بالفناء ــ عند ابن القيم ــ «الفناء عن وجود السوى» الذي هو فناء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود، وإنما يشير إلى «الفناء عن شهود السوى» الذي قد ذهب إليه كثير من متأخري الصوفية. وهذا الفناء أحد الأصلين اللذين بنى عليهما الشيخ كتابه منازل السائرين، وجعله الدرجة الثالثة من درجات السالكين في كل باب من أبواب كتابه (١/ ٢٣٧). وأما الأصل الثاني فهو إنكار العلل والأسباب والحكم. يقول ابن القيم:«والشيخ - رحمه الله - ممَّن يبالغ في إنكار الأسباب، ولا يرى وراء الفناء في توحيد الربوبية غايةً، وكلامه في الدرجة الثالثة في معظم الأبواب يرجع إلى هذين الأصلين ... ومن هاتين القاعدتين عرَضَ في كتابه من الأمور التي أُنكرِت عليه ما عرض»(٢/ ١٩٢).
ومعظم تعقبات المصنف لصاحب «المنازل» تناولت هذه الأمور التي أشار إليها، وقد أفاض الكلام عليها في مواضع كثيرة. وكانت طريقته ــ إذا رأى في كلام الشيخ مغمزًا ــ أن يحملَه على أحسن ما يمكن حملُه عليه، بل قد يظن القارئ أنه يتكلف بعض الأحيان في التماس وجه سائغ لكلامه إذا رآه مناقضًا للمأثور المشهور من سيرة الشيخ وعقيدته. ونكتفي هنا بذكر نموذجين من تعقبات ابن القيم، وهي كثيرة مستفيضة في الكتاب:
* ذَكَر شيخ الإسلام الهروي من لطائف أسرار التوبة:«اللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبدِ الحكمَ لم تدَعْ له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم»(١/ ٣٥٥).