للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنّه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمُّه. فبينا هو على ذلك تتقاذف به الظُّنونُ، إذ وقف على رأسه والده الشَّفيقُ القادرُ، فحلَّ كِتافَه وقيودَه، وقال: اركب الطَّريقَ، واحذر هذا العدوَّ، فإنَّه على منازل الطَّريق بالمرصاد. واعلم أنّك ما دمتَ حاذرًا له متيقِّظًا لا يقدر عليك، فإذا غفلتَ وثَب عليك، وأنا متقدِّمك إلى المنزلة وفرَطٌ لك، فاتَّبِعني على الأثر.

فإن كان هذا السّائرُ كيِّسًا فَطِنًا لبيبًا حاضر الذِّهن والعقل، استقبل سيرَه استقبالًا آخرَ (١)، واشتدَّ حذرُه، وتأهَّب لهذا العدوِّ، وأعدَّ له عُدَّتَه، فكان سيرُه الثّاني أقوى من الأوّل وخيرًا منه، ووصوله إلى المنزل أسرعَ. وإن غفَل عن عدوِّه وعاد إلى مثل حاله الأولى من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ ولا قوَّةِ حذرٍ واستعدادٍ عاد كما كان، وهو معرَّضٌ لما عرَض له أولًا. وإن أورثه ذلك توانيًا في سَيره وفتورًا، وتذكُّرًا لطِيب مقيله وحُسنِ ذلك الرَّوض وعذوبة مائه وتفيُّؤ ظلاله، وسكونًا بقلبه إليه= لم يعُدْ إلى مثل سَيره ونقَص عمَّا كان.

المثلُ الثَّاني: عبدٌ في صحَّةٍ وعافية جسمٍ، عرَضَ له مرضٌ أوجب له حِمْيةً وشربَ دواءٍ وتحفُّظًا من التَّخليط، ونفَضَ (٢) بذلك عنه مادّةً رديَّةً كانت مُنقِصةً لكمال قوّته وصحَّته، فعاد بعد المرض أقوى ممَّا كان قبله (٣):

لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبه ... وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ (٤)


(١) في ع بعده زيادة: "أقوى من الأوّل وأتمَّ".
(٢) ع: "نقض". وفي غيرها ما عدا ق، ل: "نقص"، تصحيف.
(٣) في ع بعده زيادة: "كما قيل".
(٤) للمتنبي في "ديوانه" (ص ٣٣١) والرواية: "فربَّما"، وسيأتي مرة أخرى.

<<  <  ج: ص:  >  >>