للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأعلَمُ آخرَ رجلٍ يخرج من النّار. يؤتى بالرَّجُل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغارَ ذنوبه، ويخبَّأ عنه كبارُها، فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا، وهو مقرٌّ لا ينكِر، وهو مشفقٌ من كبارها. فيقال: أعطُوه مكانَ كلِّ سيِّئةٍ عمِلَها حسنةً. فيقول: إنَّ لي ذنوبًا ما أراها هاهنا". قال أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -: فلقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِك حتّى بدت نواجذه.

وهذا حديثٌ صحيحٌ، ولكن في الاستدلال به على صحّة هذا القول نظرٌ، فإنَّ هذا قد عُذِّب بسيِّئاته ودخلَ بها النّارَ، ثمّ بعد ذلك أُخرِج منها، وأُعطِيَ مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةً، صدقةً تصدَّق اللهُ بها عليه ابتداءً بعدد ذنوبه؛ وليس في هذا تبديلُ تلك الذُّنوب بحسناتٍ، ولو كان كذلك لما عُوقِبَ عليها كما لم يعاقَب التّائبُ؛ والكلام إنَّما هو في تائبٍ أُثْبِتَ له مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةٌ، فزادت حسناته= فأين في هذا الحديث ما يدلُّ على ذلك؟

والنَّاسُ اشتغلوا بهذا الحديث (١) مستدلِّين به في تفسير هذه الآية على هذا القول، وقد علمتَ ما فيه. لكن للسَّلف غورٌ ودقّةُ فهمٍ لا يدركها كثيرٌ من المتأخِّرين. فالاستدلالُ به صحيحٌ بعد تمهيد قاعدةٍ إذا عُرِفتْ عُرِفَ لطفُ الاستدلال به ودقَّتُه. وهي: أنَّ الذَّنبَ لا بدَّ له من أثرٍ، وأثرُه يرتفع بالتَّوبة تارةً، وبالحسنات الماحية تارةً، وبالمصائب المكفِّرة تارةً، وبدخول النّار ليتخلَّص من أثره، وذلك إذا اشتدَّ أثرُه ولم تقوَ تلك الأمورُ على محوه، فلا بدَّ إذن من دخول النّار لأنَّ الجنّة لا يكون فيها ذرّةٌ من الخبيث (٢)، ولا


(١) ج، ش: "استقلوا ... "، تصحيف. وفي ع: "استقبلوا هذا الحديث".
(٢) ع: "الخبث".

<<  <  ج: ص:  >  >>