وقيل: المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا، أي هو لكم كلكم تقتدون به، وحذف الضمير المنصوب في قوله ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ﴾ أي جعلناه، يعني القرآن، شرعة ومنهاجا، أي سبيلا إلى المقاصد الصحيحة، وسنة أي طريقا ومسلكا واضحا بينا، هذا مضمون ما حكاه ابن جرير (١) عن مجاهد ﵀، والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً﴾ فلو كان هذا خطابا لهذه الأمة، لما صح أن يقول ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً﴾ وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا ﷺ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ﴾ أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله. وقال عبد الله بن كثير ﴿فِي ما آتاكُمْ﴾ يعني من الكتاب.
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ﴾ وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، ثم قال تعالى: ﴿إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة والأدلة الدامغة. وقال الضحاك ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ﴾ يعني أمة محمد ﷺ، والأول أظهر. وقوله ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ﴾ تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك النهي عن خلافه.
ثم قال ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من أمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كذبة كفرة خونة، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله، ﴿فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ لَفاسِقُونَ﴾ أي إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه، كما قال تعالى: ﴿وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣]. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾