للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَمُسْتَدْرِكِ الْحَاكِمِ وَتَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ «١» ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ حَرَامًا عَلَى غير أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فِيهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الموبقات كما هو مذهب الجماهير، والله أعلم.

[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٧ الى ١٨]

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)

يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ الْمَحْمُودُ على جميع ما صدر منهم مِنْ خَيْرٍ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِذَلِكَ وأعانهم عليه وَلِهَذَا قَالَ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أَيْ لَيْسَ بِحَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ قَتَلْتُمْ أَعْدَاءَكُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ. أَيْ بَلْ هُوَ الذي أظفركم عليهم كما قال:

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آلِ عمران: ١٢٣] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التَّوْبَةِ: ٢٥] يَعْلِمُ تَبَارَكَ وتعالى أن النصر ليس على كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَلَا بِلِبْسِ اللَّأْمَةِ «٢» وَالْعَدَدِ، وَإِنَّمَا النصر من عنده تعالى كما قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٩] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْقَبْضَةِ مِنَ التُّرَابِ الَّتِي حَصَبَ بِهَا وجوه الكافرين يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْعَرِيشِ بَعْدَ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ وَاسْتِكَانَتِهِ فَرَمَاهُمْ بِهَا وَقَالَ: «شَاهَتِ الوجوه» ثم أمر أصحابه أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ إِثْرَهَا فَفَعَلُوا فَأَوْصَلَ اللَّهُ تِلْكَ الْحَصْبَاءَ إِلَى أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا نَالَهُ مِنْهَا مَا شَغَلَهُ عَنْ حَالِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أَيْ هُوَ الَّذِي بَلَّغَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَكَبَتَهُمْ بِهَا لَا أَنْتَ.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ:

«يَا رَبِّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَدٌ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمِنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ «٣» .

وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ «أَعْطِنِي حَصَبًا مِنَ الْأَرْضِ» فَنَاوَلَهُ حَصَبًا عَلَيْهِ تُرَابٌ فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَبْقَ مشرك إلا دخل عينيه من ذلك التراب


(١) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٦.
(٢) اللأمة: هي الدرع، والسلاح. [.....]
(٣) انظر تفسير الطبري ٦/ ٢٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>