ربنا نكذب فلك الحمد، فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضا على ذلك عموم قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾ [الكهف: ١٠٧] وما أشبه ذلك من الآيات.
وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنة، وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله تعالى لها خلقا أفلا يسكنها من آمن به وعمل صالحا، وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة، لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة، ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم. وهذا نوح ﵊ يقول لقومه: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [نوح: ٤] ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة فكذلك هؤلاء.
وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز ﵁ أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة، وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها، ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا.
ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضا عن الطعام والشراب كالملائكة لأنهم من جنسهم، وكل هذه الأقوال فيها نظر ولا دليل عليها، ثم قال مخبرا عنهم ﴿وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ﴾ أي لا يجيرهم منه أحد ﴿أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وهذا مقام تهديد وترهيب فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب، ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله ﷺ وفودا وفودا كما تقدم بيانه، ولله الحمد والمنة والله أعلم.
يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد ﴿أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ أي ولم يكرثه (١) خلقهن بل قال لها كوني فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة بل طائعة مجيبة خائفة وجلة، أفليس ذلك بقادر
(١) لم يكرثه: أي لم يشتد عليه ولم يبلغ منه المشقة.