للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَوْفَلٍ الَّذِي قَالَ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا.

[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]

وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)

يَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّضًا بِأَهْلِ مَكَّةَ في قوله تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أَيْ طَغَتْ وَأَشِرَتْ وَكَفَرَتْ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ- إلى قوله- فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النَّحْلِ: ١١٢- ١١٣] وَلِهَذَا قَالَ تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ دُثِرَتْ دِيَارُهُمْ فَلَا تَرَى إِلَّا مساكنهم. وقوله تعالى: وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أَيْ رَجَعَتْ خَرَابًا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يَقُولُ لِعُمْرَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْهَامَّةِ- يَعْنِي الْبُومَةَ-: مَا لَكِ لَا تَأْكُلِينَ الزرع؟ قالت: لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه، قَالَ: فَمَا لَكِ لَا تَشْرَبِينَ الْمَاءَ؟ قَالَتْ: لأن الله تعالى أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ بِهِ. قَالَ: فَمَا لَكِ لَا تَأْوِينَ إِلَّا إِلَى الْخَرَابِ؟ قَالَتْ لِأَنَّهُ ميراث الله تعالى، ثُمَّ تَلَا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ثُمَّ قَالَ تعالى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا ظَالِمًا لَهُ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُ مَنْ أَهْلَكَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.

وَلِهَذَا قَالَ: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها وهي مكة رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم الْمَبْعُوثَ مِنْ أُمِّ الْقُرَى رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ الْقُرَى مِنْ عَرَبٍ وَأَعْجَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشُّورَى: ٧] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَافِ: ١٥٨] وَقَالَ:

لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الْأَنْعَامِ: ١٩] وَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: ١٠] وَتَمَامُ الدَّلِيلِ قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً [الإسراء: ٥٨] الآية، فأخبر تعالى أَنَّهُ سَيُهْلِكُ كُلَّ قَرْيَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وقد قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فَجَعَلَ تَعَالَى بِعْثَةَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ شَامِلَةً لِجَمِيعِ القرى، لأنه رسول إِلَى أُمِّهَا وَأَصْلِهَا الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» «١» وَلِهَذَا ختم به النبوة والرسالة، فلا نبي من بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ شَرْعُهُ بَاقٍ بَقَاءَ الليل والنهار إلى يوم القيامة، وقيل


(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٣، والدارمي في السير باب ٢٨، وأحمد في المسند ١/ ٢٥٠، ٣٠١، ٤/ ٤١٦، ٥/ ١٤٥، ١٤٨، ١٦٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>