﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ أي يخلقكم فيه أي في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا خلقا من بعد خلق وجيلا بعد جيل ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام وقال البغوي ﵀ يذرؤكم فيه أي في الرحم وقيل في البطن وقيل في هذا الوجه من الخلقة. قال مجاهد نسلا من الناس والأنعام، وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
وقوله تعالى: ﴿لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ تقدم تفسيره في سورة الزمر وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وله الحكمة والعدل التام ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
يقول تعالى لهذه الأمة: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ﴾ فذكر أول الرسل بعد آدم ﵇ وهو نوح ﵇ وآخرهم محمد ﷺ. ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ﵈ وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله ﵎: ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: ٧] الآية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال ﷿: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]. وفي الحديث «نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد»(١) أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله ﷻ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً﴾ [المائدة: ٤٨] ولهذا قال تعالى هاهنا: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ أي وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة. ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.
وقوله ﷿: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم قال ﷻ: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد، ولهذا
(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٤٨، ومسلم في الفضائل حديث ١٤٣، ١٤٤، وأبو داود في السنّة باب ١٣.