للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لَا يَبْقَى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَشْرِيفُ أَكْنَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَطْهِيرُ البقعة التِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا رَسُولَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، بَشِيرًا وَنَذِيرًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَكَمَا صَدُّوا الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، صُدُّوا عَنْهُ، وَكَمَا أَجْلَوْهُمْ من مكة أجلوا عنها، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ عَلَى مَا انْتَهَكُوا مِنْ حُرْمَةِ الْبَيْتِ، وَامْتَهَنُوهُ مِنْ نَصْبِ الأصنام حوله، ودعاء غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَالطَّوَافِ بِهِ عُرْيًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَاعِيلِهِمُ التِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ النَّصَارَى لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَّبُوهُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ الْآيَةَ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ يَدْخُلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خَائِفًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ رُومِيٌّ يَدْخُلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ، أَوْ قَدْ أُخِيفَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَهُوَ يُؤَدِّيهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا مُسَارَقَةً. (قُلْتُ) وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَعْنَى عُمُومِ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّصَارَى لَمَّا ظَلَمُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِامْتِهَانِ الصَّخْرَةِ، التِي كانت تصلي إِلَيْهَا الْيَهُودُ، عُوقِبُوا شَرْعًا وَقَدَرًا بِالذِّلَّةِ فِيهِ، إِلَّا فِي أَحْيَانٍ مِنَ الدَّهْرِ امْتُحِنَ بِهِمْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ لَمَّا عَصَوُا اللَّهَ فِيهِ أَيْضًا، أَعْظَمَ مِنْ عِصْيَانِ النَّصَارَى، كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَعْظَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفَسَّرَ هَؤُلَاءِ الْخِزْيَ في الدُّنْيَا بِخُرُوجِ الْمُهْدِيِّ عِنْدَ السُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ وَوَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، كما قال الإمام أحمد «١» : أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ» وهذا حديث حسن، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وليس لصاحبه وهو بشر بن أَبِي أَرْطَاةَ حَدِيثٌ سِوَاهُ، وَسِوَى حَدِيثِ: لَا تقطع الأيدي في الغزو «٢» .

[[سورة البقرة (٢) : آية ١١٥]]

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)

وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ، وَفَارَقُوا مَسْجِدَهُمْ وَمُصَلَّاهُمْ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وُجِّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ إلى


(١) مسند أحمد (ج ٤ ص ١٨١) . [.....]
(٢) رواه أيضا الإمام أحمد في المسند، قبل الحديث السابق، من طريقين.

<<  <  ج: ص:  >  >>