أما الكلام على الحروف المقطعة، فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ استفهام إنكار، ومعناه أن الله ﷾ لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء»(١) وهذه الآية كقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ … ﴿وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ﴾ [براءة: ١٦] ومثلها في سورة براءة. وقال في البقرة:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤] ولهذا قال هاهنا ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ﴾ أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه، والله ﷾ يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة، وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: ﴿إِلاّ لِنَعْلَمَ﴾ [البقرة: ١٤٣] إلا لنرى وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان، فإن من
(١) أخرجه البخاري في المرضى باب ٣، والترمذي في الزهد باب ٥٧، وابن ماجة في الفتن باب ٢٣، وأحمد في المسند ١/ ١٧٢، ١٧٤، ١٨٠، ١٨٥.