مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة، قال الحسن البصري: والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ﴾ يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال (١).
[[سورة الروم (٣٠): الآيات ٨ إلى ١٠]]
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)﴾
يقول تعالى منبها على التفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، فقال ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ يعني به النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي وما بينهما من المخلوقات المتنوعة والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلا بل بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة، ولهذا قال تعالى:
﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ﴾ ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم من المعجزات والدلائل الواضحات من إهلاك من كفر بهم ونجاة من صدقهم، فقال تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضين.
ولهذا قال ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم أيها المبعوث إليهم محمد ﷺ وأكثر أموالا وأولادا، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا إليه وعمروا فيها أعمارا طوالا، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا، أخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق، ولا حالت أموالهم ولا أولادهم بينهم وبين بأس الله، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة، وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال.
﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها، وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم، ولهذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ كما قال تعالى:
﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام:١١٠] وقال تعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] وقال تعالى:
(١) انظر تفسير الطبري ١٠/ ١٦٨.