للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صادِقِينَ

وَكَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ أَبَدًا فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة: ٢٤] الآية.

هَذَا وَقَدْ كَانَتِ الْفَصَاحَةُ مِنْ سَجَايَاهُمْ، وَأَشْعَارِهِمْ وَمُعَلَّقَاتِهِمْ إِلَيْهَا الْمُنْتَهَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنْ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ، وَلِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَحَلَاوَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَطَلَاوَتِهِ وَإِفَادَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ وَأَفْهَمَهُمْ لَهُ وَأَتْبَعَهُمْ لَهُ وَأَشَدَّهُمْ لَهُ انْقِيَادًا كَمَا عَرَفَ السَّحَرَةُ لِعِلْمِهِمْ بِفُنُونِ السِّحْرِ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ مُؤَيَّدٍ مُسَدَّدٍ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ لِبَشَرٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ فِي زَمَانِ عُلَمَاءِ الطِّبِّ وَمُعَالَجَةِ الْمَرْضَى فَكَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ فِيهِ فَعَرَفَ مَنْ عَرَفَ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.

وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا» «١» .

وَقَوْلُهُ: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يَقُولُ بَلْ كَذَّبَ هَؤُلَاءِ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَفْهَمُوهُ وَلَا عَرَفُوهُ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أَيْ وَلَمْ يُحَصِّلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إِلَى حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ جَهْلًا وَسَفَهًا كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أَيْ فَانْظُرْ كَيْفَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا ظُلْمًا وَعُلُوًّا وَكُفْرًا وَعِنَادًا وَجَهْلًا فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ.

وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ الآية، أَيْ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَيَتَّبِعُكَ وَيَنْتَفِعُ بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ وَيُبْعَثُ عَلَيْهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أَيْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ؟ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ فَيُضِلُّهُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، بَلْ يُعْطِي كُلًّا مَا يَسْتَحِقُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ لا إله إلا هو.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤١ الى ٤٤]

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ كَذَبَّكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَمِنْ عَمَلِهِمْ فَقُلْ لِي عَمَلِي


(١) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ١، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>