للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الْحِجْرِ: ٢٨- ٢٩] وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ وَصَوَّرَهُ بشرا سويا ونفخ فيه من روحه، أمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الله تَعَالَى وَجَلَالِهِ، فَسَمِعُوا كُلُّهُمْ وَأَطَاعُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِبْلِيسَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ «١» ، أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُلِّهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن منهال بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ قَالَ خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النساء، رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، ونقل ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمِ الذُّرِّيَّةُ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أَيْ خَلَقْنَا آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَا الذُّرِّيَّةَ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لأنه قال بعد ذلك ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ آدَمُ وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِالْجَمْعِ، لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ، كَمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الْبَقَرَةِ: ٥٧] وَالْمُرَادُ آبَاؤُهُمُ الذين كانوا في زمن موسى، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّةً عَلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَصْلٌ، صَارَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى الأبناء، وهذا بخلاف قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الآية، فإن المراد من آدَمُ الْمَخْلُوقُ مِنَ السُّلَالَةِ، وَذُرِّيَّتُهُ مَخْلُوقُونَ مِنْ نُطْفَةٍ، وَصَحَّ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خَلَقْنَا الإنسان الجنس لا معينا، والله أعلم.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢]]

قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)

قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ لا هنا زَائِدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْجَحْدِ، كَقَوْلِ الشاعر: [مجزوء الكامل] مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ «٣» فَأَدْخَلَ «إِنْ» وَهِيَ لِلنَّفْيِ عَلَى مَا النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ النفي، قالوا: وكذا هَاهُنَا مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ حَكَاهُمَا ابْنُ جرير وردهما، واختار أن


(١) تفسير الطبري ٥/ ٤٣٧، ٤٣٨.
(٢) تفسير الطبري ٥/ ٤٣٦، ٤٣٧.
(٣) يروى البيت بتمامه:
ما إن رأيت ولا سمعت ... بمثلهم في العالمينا
والبيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٣٢٣، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٤/ ١١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>