وقوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أَمَرَ تَعَالَى بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا شَيْءٌ سِوَى النَّافِلَةِ فِي حَالِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا حَيْثُمَا تَوَجَّهَ قَالَبُهُ وَقَلْبُهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَكَذَا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ فِي الْقِتَالِ يُصَلِّي عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَكَذَا مَنْ جَهِلَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يُصَلِّي بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
[مَسْأَلَةٌ] وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية بقوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَلَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَاحْتَاجَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِانْحِنَاءِ وَهُوَ يُنَافِي كَمَالَ الْقِيَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْظُرُ الْمُصَلِّي فِي قِيَامِهِ إِلَى صَدْرِهِ. وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي: يَنْظُرُ فِي حَالِ قِيَامِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْخُضُوعِ وَآكَدُ فِي الْخُشُوعِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَأَمَّا فِي حَالِ رُكُوعِهِ فَإِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وَفِي حَالِ سُجُودِهِ إِلَى مَوْضِعِ أَنْفِهِ وَفِي حَالِ قُعُودِهِ إِلَى حِجْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أَيْ وَالْيَهُودُ الذين أنكروا استقبالكم وَانْصِرَافَكُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُوَجِّهُكَ إِلَيْهَا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَشَرَّفَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَكَاتَمُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حَسَدًا وكفرا وعنادا ولهذا تهددهم تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
[[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٥]]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَعِنَادِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ كُلَّ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ لَمَا اتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا أَهْوَاءَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ: ٩٦- ٩٧] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَقَوْلُهُ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ إِخْبَارٌ عَنْ شِدَّةِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَنَّهُ كَمَا هُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَهُوَ أَيْضًا مُسْتَمْسِكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ولا كونه متوجها إلى بيت المقدس لكونها قِبْلَةُ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى، ثم حذر تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ الذِي يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ إِلَى الْهَوَى، فَإِنَّ الْعَالِمَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ مُخَاطِبًا لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ به الأمة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute