للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَرَائِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْ هَذَا وَأَطَمُّ، وَلِهَذَا قَالَ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أَيْ يَفُوتُونَا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أَيْ بِئْسَ مَا يَظُنُّونَ.

[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥ الى ٧]

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)

يَقُولُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَمِلَ الصالحات ورجا مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُحَقِّقُ لَهُ رَجَاءَهُ وَيُوَفِّيهِ عَمَلَهُ كَامِلًا موفرا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ سَمِيعُ الدعاء بصير بكل الكائنات، ولهذا قال تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقوله تعالى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [الجاثية: ١٥] أَيْ مَنْ عَمِلَ صَالَحَا فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ عمله على نفسه، فإن الله تعالى غَنِيٌّ عَنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ على أتقى قلب رجل مِنْهُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا، ولهذا قال تعالى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيُجَاهِدُ وَمَا ضَرَبَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ بسيف. ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم، ومع بره وإحسانه بِهِمْ، يُجَازِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَحْسَنَ الجزاء، وهو أن يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيهِمْ أَجْرَهُمْ بأحسن الذين كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَيَقْبَلُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا الْوَاحِدَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَيَجْزِي عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاءِ: ٤٠] وَقَالَ هَاهُنَا:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ.

[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ٩]

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادُهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الْحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِتَوْحِيدِهِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ هَمَّا سَبَبُ وُجُودِ الْإِنْسَانِ، وَلَهُمَا عَلَيْهِ غَايَةُ الْإِحْسَانِ، فَالْوَالِدُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْوَالِدَةُ بِالْإِشْفَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣- ٢٤] ومع هذه

<<  <  ج: ص:  >  >>