وقال الإمام أبو القاسم السهيلي: معناه أن يوسف ﵇ كان على النصف من حسن آدم ﵇، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه، فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته ﴿حاشَ لِلّهِ﴾. قال مجاهد وغير واحد: معاذ الله ﴿ما هذا بَشَراً﴾، وقرأ بعضهم ما هذا بشري أي بمشتري بشراء ﴿إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله.
﴿وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ أي فامتنع. قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي العفة مع هذا الجمال، ثم قالت تتوعده ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصّاغِرِينَ﴾ فعند ذلك استعاذ يوسف ﵇ من شرهن وكيدهن، و ﴿قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ أي من الفاحشة ﴿وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي.
﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ﴾ الآية، وذلك أن يوسف ﵇ عصمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة، ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال:«سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه»(١).
يقول تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين، أي إلى مدة، وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات، وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، وكأنهم -والله أعلم-إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب
(١) أخرجه البخاري في الآذان باب ٣٦، ومسلم في الزكاة حديث ٩١.