للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ جَلِيلَهُ وَحَقِيرَهُ كَمَنْ هُوَ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ من هذه الأصنام التي عبدوها من دون الله؟ وَلِهَذَا قَالَ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها.

[[سورة النمل (٢٧) : آية ٦١]]

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١)

يَقُولُ تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مِهَادًا بِسَاطًا ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ ولا تتحرك كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً [غَافِرٍ: ٦٤] وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً أَيْ جَعَلَ فِيهَا الْأَنْهَارَ الْعَذْبَةَ الطَّيِّبَةَ شقها فِي خِلَالِهَا وَصَرَّفَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ أَنْهَارٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا بِحَسَبِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي أَقَالِيمِهِمْ وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض وسير لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أَيْ جِبَالًا شَامِخَةً تُرْسِي الْأَرْضَ وتثبتها لئلا تميد بهم وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَيْ جَعَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ وَالْمَالِحَةِ حَاجِزًا، أَيْ مَانِعًا يَمْنَعُهَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ لِئَلَّا يَفْسُدَ هَذَا بِهَذَا، وَهَذَا بهذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقضاء كل منها عَلَى صِفَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبَحْرَ الْحُلْوَ هُوَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ عَذْبَةً زُلَالًا يُسْقَى الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ وَالثِّمَارُ مِنْهَا.

وَالْبِحَارُ الْمَالِحَةُ هِيَ الْمُحِيطَةُ بِالْأَرْجَاءِ وَالْأَقْطَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا مِلْحًا أُجَاجًا لِئَلَّا يَفْسُدَ الْهَوَاءُ بِرِيحِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان: ٥٣] ولهذا قال تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أَيْ فَعَلَ هَذَا، أَوْ يُعْبَدُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ؟. وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ صَحِيحٌ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ فِي عبادتهم غيره.

[[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٢]]

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)

يُنَبِّهُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمَدْعُوُّ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، الْمَرْجُوُّ عِنْدَ النَّوَازِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: ٦٧] وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النَّحْلِ: ٥٣] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ أَيْ مَنْ هُوَ الَّذِي لَا يَلْجَأُ الْمُضْطَرُّ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالَّذِي لَا يَكْشِفُ ضر المضرورين سواه.

<<  <  ج: ص:  >  >>