للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى:

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ مِنْ تِجَارَةِ الدُّنْيَا وَالْكَدِّ لَهَا والتصدي لها وحدها، ثم قال تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَدَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ غَفَرْتُ لَكُمُ الزَّلَّاتِ وَأَدْخَلْتُكُمُ الْجَنَّاتِ وَالْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَلِهَذَا قال تعالى: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

ثم قال تعالى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها أَيْ وَأَزِيدُكُمْ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً تُحِبُّونَهَا وَهِيَ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أَيْ إِذَا قَاتَلْتُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصَرْتُمْ دِينَهُ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِنَصْرِكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٧] وَقَالَ تَعَالَى:

وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَجِّ: ٤٠] وقوله تعالى: وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أَيْ عَاجِلٌ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ خَيْرُ الدُّنْيَا مَوْصُولٌ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَصَرَ اللَّهَ وَدِينَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.

[[سورة الصف (٦١) : آية ١٤]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا اسْتَجَابَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى حِينَ قَالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من مُعِينِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أَيْ نَحْنُ أَنْصَارُكَ عَلَى مَا أُرْسِلْتَ بِهِ ومُوَازِرُوكَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا بَعَثَهُمْ دُعَاةً إِلَى النَّاسِ فِي بِلَادِ الشَّامِ فِي الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَالْيُونَانِيِّينَ، وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ: «مَنْ رَجُلٌ يُؤْوِينِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي» «١» حَتَّى قَيَّضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَبَايَعُوهُ وَوَازَرُوهُ، وَشَارَطُوهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ إِنْ هُوَ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفَّوْا لَهُ بِمَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْأَنْصَارَ وَصَارَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عنهم وأرضاهم.

وقوله تعالى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أَيْ لَمَّا بَلَّغَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصلاة والسّلام رسالة ربه إلى قومه وآزره مَنْ وَازَرَهُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، اهْتَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ وَضَلَّتْ طَائِفَةٌ، فَخَرَجَتْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَرَمَوْهُ وَأُمَّهُ بِالْعَظَائِمِ، وَهُمُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَغَلَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ ممن اتبعه


(١) أخرجه أحمد في المسند ٣/ ٣٢٢، ٣٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>