للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على ما عاهدوا عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا ﴿إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً﴾ … ﴿وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ﴾. وقوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم حتى يعملوا بما يعلمه منهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ﴾ [محمد: ٣١] فهذا علم بالشيء بعد كونه وإن كان العلم السابق حاصلا به قبل وجوده، وكذا قال الله تعالى:

﴿ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ [آل عمران: ١٧٩] ولهذا قال تعالى هاهنا ﴿لِيَجْزِيَ اللهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ أي بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه وقيامهم به ومحافظتهم عليه ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ﴾ وهم الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره فاستحقوا بذلك عقابه، وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان، ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه فهي الغالبة لغضبه قال ﴿إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾.

[[سورة الأحزاب (٣٣): آية ٢٥]]

﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥)

يقول تعالى مخبرا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد، ولكن قال تعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال:٣٣] فسلط عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب اجتماعهم من الهوى، وهم أخلاط من قبائل من قبائل شتى أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم، ولم ينالوا خيرا لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول بالعداوة وهمهم بقتله واستئصال جيشه، ومن هم بشيء وصدق همه بفعله، فهو في الحقيقة كفاعله.

وقوله : ﴿وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ﴾ أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله وحده ونصر عبده وأعز جنده، ولهذا كان رسول الله يقول «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» (١) أخرجاه من حديث أبي هريرة . وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله على


(١) أخرجه البخاري في العمرة باب ١٢، والدعوات باب ٥٢، ومسلم في الحج حديث ٤٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>