للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ﴾ يعني بهم العرب، فإنه ما أتاهم من نذير من قبله، وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم، كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم، وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته عند قوله تعالى: ﴿قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ [الأعراف: ١٥٨]. وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ﴾ قال ابن جرير: لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن الله تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون ﴿فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بالله ولا يصدقون رسله.

[[سورة يس (٣٦): الآيات ٨ إلى ١٢]]

﴿إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)

يقول تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غل، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مقمحا، ولهذا قال تعالى: ﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ والمقمح هو الرافع رأسه، كما قالت أم زرع في كلامها: وأشرب فأتقمح (١)، أي أشرب فأروي، وأرفع رأسي تهنيئا وترويا، واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين، كما قال الشاعر [الوافر]:

فما أدري إذا يممت أرضا … أريد الخير أيهما يليني (٢)

أالخير الذي أنا أبتغيه … أم الشر الذي لا يأتليني؟

فاكتفى بذكر الخير عن الشر، لما دل الكلام والسياق عليه، وهكذا هذا لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين. قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ قال: هو كقوله ﷿: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير. وقال مجاهد ﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ قال: رافعي رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير.

وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ قال مجاهد: عن الحق ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ قال مجاهد: عن الحق فهم يترددون. وقال قتادة: في الضلالات.


(١) أخرجه البخاري في النكاح باب ٨٢، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٩٢.
(٢) البيتان للمثقب العبدي في ديوانه ص ٢١٢، وخزانة الأدب ١١/ ٨٠، وشرح اختيارات المفضل ص ١٢٦٧، وشرح شواهد المغني ١/ ١٩١، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٤٥، وخزانة الأدب ٦/ ٣٧، وشرح المفصل ٩/ ١٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>