للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنفسهم، فلم يتبعوا الحق، وسعوا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به، قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه، وبعدوا منه بعدا عظيما شاسعا، ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه بأنه لا يغفر لهم ﴿وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً﴾ أي سبيلا إلى الخير ﴿إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ وهذا استثناء منقطع ﴿خالِدِينَ فِيها أَبَداً﴾ الآية، ثم قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ﴾ أي قد جاءكم محمد صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله ﷿، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه، يكن خيرا لكم. ثم قال: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم، كما قال تعالى: ﴿وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٨] وقال هاهنا: ﴿وَكانَ اللهُ عَلِيماً﴾ أي بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبمن يستحق الغواية فيغويه، ﴿حَكِيماً﴾ أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

[[سورة النساء (٤): آية ١٧١]]

﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١)

ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة، إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا، ولهذا قال الله تعالى: ﴿اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [التوبة: ٣١]. وقال الإمام أحمد (١): حدثنا هشيم قال: زعم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن عمر أن رسول الله قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله». ثم رواه هو وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة، عن الزهري كذلك، ولفظه «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» وقال علي بن المديني: هذا حديث صحيح سنده وهكذا رواه البخاري (٢) عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري به، ولفظه «فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».


(١) مسند أحمد ١/ ٢٣.
(٢) صحيح البخاري (أنبياء باب ٤٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>