أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين.
وأمسوا تائبين، وفي صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ كان يقول:«اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا»(١).
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي، عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال:«يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه، فيقول الله تعالى لأصغر نعمه-أحسبه قال في ديوان النعم-خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح كله، ثم تنحى وتقول: وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم، فإذا أراد الله أن يرحمه قال: يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت لك عن سيئاتك-أحسبه قال: ووهبت لك نعمي-» غريب وسنده ضعيف.
وقد روي في الأثر أن داود ﵇ قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتني يا داود، أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم، وقال الإمام الشافعي ﵀: الحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها، وقال القائل في ذلك:
لو كل جارحة مني لها لغة … تثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به … إليك أبلغ في الإحسان والمنن
يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً﴾ وقد استجاب الله له فقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً﴾ [العنكبوت: ٦٧] الآية، وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً﴾ [آل عمران: ٩٦ - ٩٧] وقال في هذه القصة ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً﴾ [إبراهيم: ٣٩] فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها، ولهذا قال: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ﴾ ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضا فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً﴾ [البقرة: ١٢٦] كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطوّلا.