للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: ﴿وَما يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي ولو انبغى لهم ما استطاعوا ذلك، قال الله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ [الحشر: ٢١] ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته، لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة إنزال القرآن على رسول الله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه لئلا يشتبه الأمر، وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ كما قال تعالى مخبرا عن الجن ﴿وَأَنّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً﴾ -إلى قوله- ﴿أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾ [الجن: ٨ - ١٠].

[[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٢١٣ إلى ٢٢٠]]

﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاِخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)

يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له، ومخبرا أن من أشرك به عذبه. ثم قال تعالى آمرا لرسوله أن ينذر عشيرته الأقربين، أي الأدنين إليه، وأنه لا يخلص أحدا منهم إلا إيمانه بربه ﷿، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين، ومن عصاه من خلق الله كائنا من كان فليتبرأ منه، ولهذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها، كما قال تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ﴾ [يس: ٦]، وقال تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها﴾ [الأنعام: ٩٢] وقال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام: ٥١]، وقال تعالى:

﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا﴾ [مريم: ٩٧]، وقال تعالى: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [هود: ١٩]، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: ١٧]. وفي صحيح مسلم «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» (١) وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة فلنذكرها:

[الحديث الأول] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله ﷿ ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ أتى النبي الصفا، فصعد عليه ثم نادى «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله «يا بني


(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٤٠.
(٢) المسند ١/ ٣٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>