للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأيده الله بِالْمُعْجِزَاتِ، وَمَعَ هَذَا اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ حَتَّى أَخَذَهُ اللَّهُ أَخَذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَكَذَلِكَ عَاقِبَةُ مَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى فقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أَيْ هَلْ سَمِعْتَ بِخَبَرِهِ إِذْ ناداهُ رَبُّهُ أَيْ كَلَّمَهُ نِدَاءٍ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أَيِ الْمُطَهَّرِ طُوىً وَهُوَ اسْمُ الْوَادِي عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أَيْ تَجَبَّرَ وَتَمَرَّدَ وَعَتَا.

فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أَيْ قُلْ لَهُ هَلْ لَكَ أَنْ تُجِيبَ إِلَى طَرِيقَةٍ وَمَسْلَكٍ تَزَّكَّى به وتسلم وَتُطِيعُ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أَيْ أَدُلُّكَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ فَتَخْشى أَيْ فَيَصِيرُ قَلْبُكَ خَاضِعًا له مطيعا خاشعا بعد ما كَانَ قَاسِيًا خَبِيثًا بَعِيدًا مِنَ الْخَيْرِ فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى يَعْنِي فَأَظْهَرَ لَهُ مُوسَى مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْحَقِّ حُجَّةً قَوِيَّةً وَدَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَكَذَّبَ وَعَصى أَيْ فَكَذَّبَ بِالْحَقِّ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كفر بقلبه فَلَمْ يَنْفَعِلْ لِمُوسَى بِبَاطِنِهِ وَلَا بِظَاهِرِهِ وَعِلْمُهُ بأن ما جاء به حَقٌّ لَا يُلْزِمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِلْمُ الْقَلْبِ وَالْإِيمَانُ عَمَلُهُ وَهُوَ الانقياد للحق والخضوع له.

وقوله تعالى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى أَيْ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ جَمْعُهُ السَّحَرَةَ لِيُقَابِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ المعجزات الباهرات فَحَشَرَ فَنادى أَيْ فِي قَوْمِهِ فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَالَهَا فِرْعَوْنٌ بَعْدَ قَوْلِهِ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: ٣٨] بِأَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ انْتِقَامًا جَعَلَهُ بِهِ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هُودٍ: ٩٩] كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ [القصص: ٤١] وهذا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَلِمَتَاهُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَقِيلَ كُفْرُهُ وَعِصْيَانُهُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أي لمن يتعظ وينزجر.

[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١)

وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)

يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي إِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ: أَأَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ يَعْنِي بَلِ السَّمَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: ٥٧] وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: ٨١] وقوله تعالى: بَناها فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ:

رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها أَيْ جَعَلَهَا عَالِيَةَ الْبِنَاءِ بَعِيدَةَ الْفَنَاءِ مُسْتَوِيَةَ الْأَرْجَاءِ مكللة بالكواكب في

<<  <  ج: ص:  >  >>