للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْبُدَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْعِبَادَةُ مَقَامٌ عَظِيمٌ يَشْرُفُ بِهِ الْعَبْدُ لِانْتِسَابِهِ إِلَى جَنَابِ اللَّهِ تَعَالَى كما قال بعضهم: [السريع]

لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أسمائي

وقد سمى الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بِعَبْدِهِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: ١] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الْجِنِّ: ١٩] ، سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: ١] فَسَمَّاهُ عَبْدًا عند إنزاله عليه وعند قيامه فِي الدَّعْوَةِ وَإِسْرَائِهِ بِهِ وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ فِي أَوْقَاتٍ يَضِيقُ صَدْرُهُ مِنْ تَكْذِيبِ المخالفين حَيْثُ يَقُولُ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: ٩٧- ٩٩] وقد حكى الرازي فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ أَشْرَفُ مِنْ مَقَامِ الرِّسَالَةِ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ تَصْدُرُ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ وَالرِّسَالَةُ مِنَ الْحَقِّ إلى الخلق، قال:

ولأن الله يتولى مصالح عبده والرسول يتولى مَصَالِحِ أُمَّتِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَالتَّوْجِيهُ أَيْضًا ضَعِيفٌ لَا حَاصِلَ لَهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الرازي بتضعيف ولا رد، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: الْعِبَادَةُ إِمَّا لِتَحْصِيلِ ثَوَابٍ أو درء عِقَابٍ، قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِطَائِلٍ إِذْ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ، وَإِمَّا لِلتَّشْرِيفِ بِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَهُمْ ضَعِيفٌ، بَلِ الْعَالِي أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْكَمَالِ، قَالُوا: وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُصَلِّي: أُصَلِّي لِلَّهِ، وَلَوْ كَانَ لتحصيل الثواب ودرء العقاب لبطلت الصلاة وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ وَقَالُوا: كَوْنُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُنَافِي أَنْ يَطْلُبَ مَعَهَا ثَوَابًا وَلَا أَنْ يَدْفَعَ عَذَابًا كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ: أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ إِنَّمَا أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» «١» .

[[سورة الفاتحة (١) : آية ٦]]

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)

قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالصَّادِّ وَقُرِئَ السِّرَاطَ وَقُرِئَ بِالزَّايِ، قَالَ الْفَرَّاءَ: وَهِيَ لُغَةُ بني عذرة وبني كلب. لما تقدم الثناء على المسؤول تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَاسَبَ أَنْ يُعَقَّبَ بِالسُّؤَالِ كَمَا قَالَ: «فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ السَّائِلِ أَنْ يَمْدَحَ مسؤوله ثُمَّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ وَأَنْجَعُ لِلْإِجَابَةِ، وَلِهَذَا أَرْشَدَ الله إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ، وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ السَّائِلِ وَاحْتِيَاجِهِ كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: ٢٤] وَقَدْ يَتَقَدَّمُهُ مَعَ ذلك وصف المسؤول كَقَوْلِ ذِي النُّونِ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر: [الوافر]


(١) الحديث أخرجه أحمد في المسند (ج ٥ ص ٣٨٦) عن بعض أصحاب النبي وأخرجه أبو داود (صلاة، باب ١٢٤) وابن ماجة (إقامة، باب ٤٦ ودعاء، باب ٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>