للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا الْمَسْلَكِ الَّذِي طَرَقَهُ وَسَلَكَهُ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الرُّوحَ هِيَ النَّفْسُ أَوْ غَيْرُهَا، وَقَرَّرَ أَنَّهَا ذَاتٌ لَطِيفَةٌ كَالْهَوَاءِ، سَارِيَةٌ فِي الْجَسَدِ كَسَرَيَانِ الْمَاءِ فِي عُرُوقِ الشَّجَرِ، وَقَرَّرَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي يَنْفُخُهَا الْمَلَكُ فِي الْجَنِينِ هِيَ النَّفْسُ بِشَرْطِ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ وَاكْتِسَابِهَا بِسَبَبِهِ صِفَاتِ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، فَهِيَ إِمَّا نَفْسٌ مطمئنة أو أمارة بالسوء، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ هُوَ حَيَاةُ الشَّجَرِ ثُمَّ يَكْسِبُ بِسَبَبِ اخْتِلَاطِهِ مَعَهَا اسْمًا خَاصًّا، فَإِذَا اتَّصَلَ بِالْعِنَبَةِ وَعُصِرَ مِنْهَا صَارَ إِمَّا مُصْطَارًا «١» أَوْ خَمْرًا، وَلَا يُقَالُ لَهُ مَاءٌ حِينَئِذٍ إلا على سبيل المجاز، وكذا لَا يُقَالُ لِلنَّفْسِ رُوحٌ إِلَّا عَلَى هَذَا النحو، وكذا لَا يُقَالُ لِلرُّوحِ نَفْسٌ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا تؤول إليه، فحاصل ما نقول: إن الروح هي أَصْلُ النَّفْسِ وَمَادَّتُهَا، وَالنَّفْسُ مُرَكَّبَةٌ مِنْهَا وَمِنَ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ، فَهِيَ هِيَ مَنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي مَاهِيَةِ الرُّوحِ وَأَحْكَامِهَا، وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا، وَمِنْ أَحْسَنِ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ مندة في كتاب سمعناه في الروح.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]

وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)

يَذْكُرُ تَعَالَى نِعْمَتَهُ وَفَضْلَهُ الْعَظِيمَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الكريم صلّى الله عليه وسلّم فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَطْرُقُ النَّاسَ رِيحٌ حَمْرَاءُ، يَعْنِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلَا يَبْقَى فِي مُصْحَفِ رَجُلٍ وَلَا فِي قَلْبِهِ آيَةٌ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الْآيَةَ «٢» .

ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى شَرَفِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ كُلُّهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ ما أنزل عَلَى رَسُولِهِ لَمَا أَطَاقُوا ذَلِكَ وَلَمَا اسْتَطَاعُوهُ، وَلَوْ تَعَاوَنُوا وَتَسَاعَدُوا وَتَظَافَرُوا فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُسْتَطَاعُ، وَكَيْفَ يُشْبِهُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامَ الْخَالِقِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا مِثَالَ لَهُ وَلَا عَدِيلَ لَهُ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس أن هذه الآية نزلت في نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا نَأْتِيكَ بِمِثْلِ مَا جِئْتَنَا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَسِيَاقُهَا كُلُّهُ مَعَ قُرَيْشٍ، وَالْيَهُودُ إِنَّمَا اجْتَمَعُوا بِهِ فِي الْمَدِينَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ


(١) المصطار: الخمر الحديثة المتغيرة الطعم والريح، وقيل: المصطار: من أسماء الخمر.
(٢) انظر تفسير الطبري ٨/ ١٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>