يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم مثلا برجلين جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب، محفوفتين بالنخيل، المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة، ولهذا قال: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها﴾ أي أخرجت ثمرها، ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ أي ولم تنقص منه شيئا، ﴿وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً﴾ أي والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا، ﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾ قيل: المراد به المال، روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل: الثمار، وهو أظهر هاهنا ويؤيده القراءة الأخرى ﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾ بضم الثاء وتسكين الميم، فيكون جمع ثمرة كخشبة وخشب. وقرأ آخرون ثمر بفتح الثاء والميم، فقال أي صاحب هاتين الجنتين لصاحبه وهو يحاوره، أي يجادله، ويخاصمه يفتخر عليه ويترأس ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ أي أكثر خدما وحشما وولدا، قال قتادة: تلك والله أمنية الفاجر، كثرة المال وعزة النفر.
وقوله: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ أي بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكار المعاد ﴿قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً﴾ وذلك اغترارا منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار، والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف، ذلك لقلة عقله، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، ولهذا قال:
﴿وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً﴾ أي كائنة ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً﴾ أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى﴾ [فصلت: ٥٠] وقال ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً﴾ [مريم: ٧٧] أي في الدار الآخرة تألى على الله ﷿. وكان سبب نزولها في العاص بن وائل، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
يقول تعالى مخبرا عما أجابه به صاحبه المؤمن، واعظا له وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ﴾ الآية، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود