للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«بطر الحق وغمط الناس» «١» .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى وَهُوَ التَّوْرَاةُ إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ يَعْنِي الْقُرْآنَ مُصَدِّقٌ أَيْ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ لِساناً عَرَبِيًّا أَيْ فَصِيحًا بَيِّنًا وَاضِحًا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ أَيْ مُشْتَمِلٌ عَلَى النِّذَارَةِ لِلْكَافِرِينَ وَالْبِشَارَةِ للمؤمنين، وقوله تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ وقوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيِ الْأَعْمَالُ سَبَبٌ لِنَيْلِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ وَسُبُوغِهَا عليهم، والله أعلم.

[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى التَّوْحِيدَ لَهُ وَإِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ، عَطَفَ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا هُوَ مَقْرُونٌ فِي غَيْرِ مَا آية من القرآن كقوله عز وجل: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء: ٢٣] وقوله جل جلاله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لُقْمَانَ: ١٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ. وَقَالَ عز وجل هَاهُنَا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً أَيْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمَا.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ لِسَعْدٍ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ فَلَا آكُلُ طَعَامًا ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى، فَامْتَنَعَتْ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى جَعَلُوا يَفْتَحُونَ فَاهَا بِالْعَصَا وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً الآية. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ وَأَطْوَلَ مِنْهُ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً أَيْ قَاسَتْ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَبًا مِنْ وِحَامٍ وَغَشَيَانٍ وَثِقَلٍ وَكَرْبٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَنَالُ الْحَوَامِلُ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أَيْ بِمَشَقَّةٍ أَيْضًا مِنَ الطَّلْقِ وَشِدَّتِهِ وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي فِي لُقْمَانَ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان:


(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٤٧، وأبو داود في اللباس باب ٢٦، والترمذي في البر باب ٦١، وأحمد في المسند ١/ ٣٨٥، ٤٢٧، وعند الترمذي بلفظ «غمص» بدل «غمط» .

<<  <  ج: ص:  >  >>