أن المعنى في هذه الآية ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا﴾ أي من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك ﴿فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا﴾ وهو ما حصل من المغانم وغيرها مع المسلمين، وقوله:
﴿وَالْآخِرَةِ﴾ أي وعند الله ثواب الآخرة وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم وجعلها كقوله: ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها﴾ -إلى قوله- ﴿وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: ١٥ - ١٦] ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسير الآية الأولى بهذا ففيه نظر، فإن قوله:
﴿فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ﴾ ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة أي بيده هذا وهذا، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا وممن يستحق هذا. ولهذا قال: ﴿وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه، وقوله: ﴿شُهَداءَ لِلّهِ﴾ كما قال: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ﴾ [الطلاق: ٢] أي ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال ﴿وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه. وقوله: ﴿أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.
وقوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما﴾ أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما. وقوله: ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨]، ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي ﷺ يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة