فأما قوله ﵎ في الأنعام: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] فالمراد هنا مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس كقوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] أي أحدهما ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبرا عنهم: ﴿قالُوا يا قَوْمَنا إِنّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى﴾ ولم يذكروا عيسى لأن عيسى ﵇ أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا أنزل من بعد موسى، وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي ﷺ بقصة نزول جبريل ﵊ أول مرة فقال:
بخ بخ! هذا الناموس الذي كان يأتي موسى يا ليتني أكون فيه جذعا. ﴿مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، وقوله: ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ أي في الاعتقاد والإخبار ﴿وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ في الأعمال فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب، فخبره صدق وطلبه عدل، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ [الأنعام: ١١٥].
وقال ﷾: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [التوبة: ٣٣] فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وهكذا قالت الجن ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ في الاعتقادات ﴿وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي في العمليات ﴿يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ﴾ فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا ﷺ إلى الثقلين الجن والإنس، حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال:
﴿أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ قيل إن من هاهنا زائدة وفيه نظر لأن زيادتها في الإثبات قليل، وقيل إنها على بابها للتبعيض ﴿وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ﴾ أي ويقيكم من عذابه الأليم، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة، ولهذا قالوا هذا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة، فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس ﵄ قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة، والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله ﷿: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ [الرحمن: ٧٤] وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله جل وعلا: ﴿وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٤٦ - ٤٧] فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا: ولا بشيء من آلائك