للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضا، ولقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ﴾ ولأن الذي حرم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدم لم يأمره النبي بكفارة، وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا أو مشربا أو ملبسا أو شيئا من الأشياء، فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين، فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم:١]، ثم قال ﴿قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢]، وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم، عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم.

وقال ابن جرير (١): حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد قال:

أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا، ويخصوا أنفسهم، ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية إلى قوله ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾. قال ابن جريج، عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس، إلا ما يؤكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت هذه الآية ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ يقول لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار، وما هموا به من الاختصاء، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله فقال «إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا» فقالوا: اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت.

وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة، ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين كما تقدم ذلك، ولله الحمد والمنة.

وقال أسباط عن السدي في قوله ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وذلك أن رسول الله جلس يوما فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف، فقال ناس من أصحاب النبي ، كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما حقنا إن لم نحدث عملا، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم


(١) تفسير الطبري ٥/ ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>