للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شاء أنظركم وأجلكم، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، ولهذا قال ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ﴾ أي وهو خير من فصل القضايا، وخير الفاتحين في الحكم بين عباده.

وقوله ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي لو كان مرجع ذلك إلي، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك، والله أعلم بالظالمين.

فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين، من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت لرسول الله : يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب (١)، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلّم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (٢)، فقال رسول الله «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم، من يعبد الله لا يشرك به شيئا» وهذا لفظ مسلم (٣)، فقد عرض عليهم عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا، فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ﴾ فالجواب والله أعلم، أن هذه الآية دلت، على أنه لو كان إليه وقوع العذاب، الذي يطلبونه حال طلبهم له، لأوقعه بهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم.

وقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ﴾ قال البخاري (٤): حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله» ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي﴾


(١) موضع يقال له أيضا قرن المنازل، بينه وبين مكة يوم وليلة. وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.
(٢) الأخشبان هما جبلا مكة: أبو قبيس والجبل الذي يقابله.
(٣) صحيح مسلم (جهاد حديث ١١١) وصحيح البخاري (بدء الخلق باب ٧)
(٤) صحيح البخاري (تفسير سورة الأنعام باب ٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>