وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ﴾ الآية وهو الذي يقول ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ﴾ الآية ومن ذلك قال ﴿هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى﴾ ومن ذلك قال ﴿وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾ الآية.
رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم من رواية أبي جعفر الرازي به وروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد من علماء السلف سياقات توافق هذه الأحاديث اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها وبالله المستعان.
فهذه الأحاديث دالة على أن الله ﷿ استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك قالوا: ولهذا قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ﴾ ولم يقل من آدم ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ ولم يقل من ظهره ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ١٦٥] وقال ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ﴾ [النمل: ٦٢] وقال ﴿كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الأنعام: ١٣٣].
ثم قال ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى﴾ أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا والشهادة تارة تكون بالقول كقوله ﴿قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا﴾ الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧] أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك وكذا قوله تعالى:
﴿وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات: ٧] كما أن السؤال تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله ﴿وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ﴾ [إبراهيم: ٣٤].
قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه فإن قيل إخبار الرسول ﷺ به كاف في وجوده فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ولهذا قال ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ أي لئلا تقولوا يوم القيامة ﴿إِنّا كُنّا عَنْ هذا﴾ أي التوحيد ﴿غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا﴾ الآية.